مع تبني دستور جديد، ومع الانتخابات التي ستجرى يوم الخميس القادم لاختيار حكومة للأربع سنوات القادمة، فإن الوضع قد يغري كلا من واشنطن وبغداد بإعلان النصر في العراق· ومما لا شك فيه أن نظام الحكم العراقي البازغ، يمثل انقطاعا جذرياً ليس فقط مع تاريخ هذه الدولة، ولكن أيضا مع كامل منظومة الدولة العربية، كما أسستها بريطانيا وفرنسا بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية· ولكن إذا ما نظرنا إلى الموضوع من منظور أوسع، فإننا سنجد أن مثل هذا التفاؤل ليس له ما يبرره، حيث لم يتم حل مشكلة واحدة من المشاكل المرتبطة بالتغيير الهائل الذي حدث في العراق· ما هو أسوأ من ذلك، هو أن هناك توترات وتناقضات عميقة قد تم ترسيخها في دستور العراق الجديد، وهي توترات وتناقضات تهدد وجود الدولة العراقية ذاتها·
ما الذي أوصلنا إلى ذلك؟
بداية، ينبغي علينا أن نتذكر أن الكثير قد قيل عن جوانب الفشل الأميركي في العراق، وأن ما قيل حول ذلك كان صحيحا أيضا، بيد أنه يتوجب عليَّ هنا باعتباري أحد المشاركين في المناقشات التي جرت حول العراق قبل وبعد الحرب التي شنتها أمـــيركا عليه أن أقــول، إننا -نحن العراقيين- قد فشلنا من جانبنا في وضع الأسس اللازمة لبناء نظام جديد، وإن النخبة السياسية التي جاءت إلى الحكم عقب الانتخابات التي جرت في شهر يناير الماضي قد عجزت حتى عن مجرد البدء في خلق دولة عراقية قوية ومستقرة للحلول محل تلك التي أُطيح بها في أبريل ·2003 إن معدل الخسائر الذي يتزايد بشكل مطرد، والذي وصل الآن إلى 64 ضحية يومياً خلال فصل الخريف الحالي مقابل 26 ضحية يوميا في بداية 2004 يعتبر الدليل الأكثر وضوحا (هناك أدلة أخرى بالطبع) على أن هناك خطأ رهيبا قد وقع، وأن الأمر بالتالي لا يتعلق بمجرد قصور أميركي في تحويل مسار الأوضاع·
ومن سوء الحظ، أننا لا نستطيع أن نتوقع أن الأوضاع سوف تتغير بمجرد إجراء انتخابات، كما أن هناك احتمالا ضئيلا أن يتمكن الفائزون فيها من الحصول على السلطة الكافية في البرلمان التي تمكنهم من عكس مسار الأوضاع، وهو ما يرجع في الأساس إلى سبب واحد هو: الدستور·
قنابل موقوتة في الدستور
تشير كافة الدلائل إلى أن الدستور العراقي -ما لم يتم تعديله جذرياً- سوف يؤدي إلى المزيد من الإضعاف للدولة العراقية الآخذة الآن في التداعي بالفعل· وعلى الرغم من كل العبارات الإنشائية التي كتبت في هذا الدستور عن ضرورة وحدة ''وطن الأنبياء والرسل''، و''القيم والمثل التي تجسدها الرسالات السماوية واكتشافات العلوم'' التي لعبت دوراً في ''المحافظة على الكيان الموحد للعراق'' فإن عدم الوحدة، والسيادة المنقوصة، وكذلك سنوات من الخلاف في المستقبل هي ما ينتظر العراق إذا لم يتم إجراء عملية تعديل رئيسية للدستور·
وأي حكومة تأتي بعد الانتخابات القادمة ستتعرض إلى عوامل تقويض قد تقضي عليها في النهاية وذلك من ثلاث نواحٍ على الأقل:
أولا: أن الدستور يؤسس لبرلمان في غاية القوة، سيتحكم كما شاء في السلطة التنفيذية للدولة· ففي حين أن هذا البرلمان -وكما هو مقدر له في الدستور- مطلوب منه أن يعمل كمؤسسة ديمقراطية، إلا أن الطريقة التي سيعمل بها ليست ديمقراطية في الحقيقة· فهو عبارة عن مزيج مصطنع من كتل انتخابية عرقية وطائفية· وإذا ما جاز لنا أن نتخذ من تجربة الحكومة المؤقتة الحالية في العراق دليلا نسترشد به، فإننا نقول إن العدد القليل من الأفراد الذين يتحكمون في هذه الكتل، هم الذين سيقبضون على زمام السلطة الحقيقية في البرلمان الجديد، وهو ما سيتم عن طريق لجان منتقاة بعناية، ومن خلال المساومات والاتفاقات التي تتم في كواليس البرلمان· ولأن هذه العصبة من المتشوقين إلى السلطة، هي التي تختار الرئيس كما تختار رئيس الوزراء أيضا، وتستطيع بالتالي إعفاءهما من منصبيهما بأغلبية بسيطة، فإن معنى هذا أنه لن يكون هناك من يستطيع كبح جماح طغيان الأغلبيات التي تعمل تحت رعاية السلطة التشريعية·
ثانيا، أن السلطة التنفيذية مقسمة بين الرئيس وبين مجلس الوزراء وهو ما سيجعل عملية اتخاذ القرارات الرئيسية متسمة بنفس التوتر والشلل اللذين تتسم بهما هذه العملية في الحكومة الحالية· فالرئيس ورئيس الوزراء (يفترض، وإنْ كان لم يتم النص على ذلك صراحة، أنه سيتم تخصيص هذين المنصبين للأكراد والشيعة العرب كما هو الوضع حاليا) يمكنهما أن يقوما -كلاً على حدة- بموجب بنود هذا الدستور بتقديم مشروعات قوانين منفصلة للبرلمان وهو ما يمثل وصفة مؤكدة للصراع· ليس هذا فحسب، بل إن الرئيس ورئيس الوزراء معا يمكن عزلهما من منصبيهما، بعد إجراء تصويت بطرح الثقة عنهما، بعد الحصول على موافقة الأغلبية البرلمانية على ذلك· بعبارات أخرى فإنه في حالات الحرب الأهلية، والعنف المتفشي، لن يكون هناك من هو قادر على القول بأن هناك شخصاً واحداً مسؤول عن الفرع التنفيذي من الحكومة الفيدرالية·
تقوية المناطق على حساب المركز
ثالثاً، أن الدستور يشجع على تحويل المحافظات والإدارات المحلية إلى مناط